بسم الله الرحمن الرحيم
مَا الفَرْق بَيْنَ (فَاجْتَنِبُوهُ) وَ(حُرِّمَتْ) فِي النَّهْيِ ؟
الشيخ عصام بن صالح العويد -حفظه الله تعالى-
قبل بيان الحكمة من ورود النهي بهذه الصيغة لابد من البيان أن هذا القائل بأن الخمر ليست بحرام ـ اعتماداً على أن النهي عنها لم يأت بلفظ التحريم كما جاء في الميتة والدم ولحم الخنزير كما في قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ... }(3) المائدة ـ يلزمه القول أيضاً: بأن الزنا وأكل مال اليتيم والطاغوت والأوثان وقول الزور ليست بحرام هي أيضاً؛ لأنه لم يرد النهي عنها بلفظ التحريم في القرآن أبداً، وإنما ورد في الزنا بقوله تعالى:{وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً}(32) سورة الإسراء.
وفي أكل مال اليتـــيم بقوله تعالى:{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْــــسَنُ}(34) الإسراء.
وفي الطاغوت:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ... }(36) النحل.
وفي الأوثان وقول الزور بقوله تعالى:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}(30) الحـج.
فقوله تعالى في الزنا: (وَلاَ تَقْرَبُواْ) هو نفسه قوله تعالى في الخمر: (فَاجْتَنِبُوهُ)؛ لأن الأمر بعدم الاقتراب هو نفسه الأمر بالاجتناب لغة وشرعاً وعقلاً كما هو معلوم ظاهر.
فمن أشكل عليه ذلك؛ فليعلم أن النهي عن الطاغوت والأوثان وقول الزور وردت بلفظ (فَاجْتَنِبُوا)، فهل يشك مسلم في حرمتها لأنها لم ترد بلفظ التحريم؟!! بل النهي عن السبع الموبقات جاء في الصحيحين وغيرهما بلفظ:[ اجتنبوا السبع الموبقات... الشرك بالله والسحر وأكل مال اليتيم... ].
إذا فُهم هذا؛ فيبقي الجواب عن:
لماذا جاء النهي عن الخمر بلفظ (فَاجْتَنِبُوهُ) ولم يأت بلفظ (حُرِّمَتْ)؟
والجواب أنه مما ينبغي أن يُعلم أن المنهيات في القرآن على قسمين:
القسم الأول: منهيات تتعلق بها نفوس عامة الناس فطرة وطبعاً، فالله جعل في النفس البشرية السَّوية ميلاً لها ــ لحكمة أرادها تعالى ــ ثم نهاهم عنها لحكمة أخرى وابتلاءً وامتحاناً، ولذا ــ أي لهذا التعلق الفطري ــ يقع في هذه المنهيات أكثر رعاع الناس وهمجهم ــ عياذاً بالله ــ مثل: الزنا والخمر وأكل الأموال بالباطل ونحو ذلك، فهذه يأتي النهـي عنهــا ـــ غالبــاً ـــ بـلفـظ: (وَلاَ تَقْرَبُــواْ) (وَلاَ تَقْـرَبُـوهُـنَّ) (فَاجْتَنِبُوا) (فَاجْتَنِبُوهُ)؛ لأن في هذه الألفاظ الأمر بشيئين: الامتناع والمباعدة معاً، وليس مجرد الامتناع فقط.
القسم الثاني: منهيات لا تتعلق بها نفوس عامة الناس فطرة وطبعاً، بل لا يقع فيها إلا من فسدت موازينه وانتكست فطرته، إما تقليداً أو عادة أو استكبـاراً ونحو ذلك، مثــل: أكـل الميتــة والـدم ولحــم الخنـزيــر ــ ومعلوم أنه يأكل النجاسات ــ ونكاح المحارم وقتل النفس والظلم، فهذه يأتي النهي عنها ـــ غالباً ــ بلفظ (حُرِّمَتْ) (حَرَّمَ اللّهُ) (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ) ونحوها، والأمر هنا إنما هو بشيء واحد فقط: وهو الامتناع.
وسرُّ ذلك؛ أن المنهيات في القسم الأول لما كانت تتعلق بها نفوس غالب الناس احتاج النهي إلى شيئين: الامتناع والمباعدة معاً؛ لأنه إن اقترب وقع، أما المنهيات في القسم الثاني فلما كانت نفوس غالب الناس لا تتعلق بها كفى الأمر بالامتناع وعدم المقارفة فقط.
ويظهر ذلك جلياً في المقارنة بين النهي عن الزنا والنهي عن نكاح المحارم، فمع أن الثاني أشد تحريماً إجماعاً إلا أن النهي عن الأول جاء بلفظ:{وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً}(32) الإسراء، وعن الثاني بلفظ:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ... }(23) النساء، وذلك لتعلق النفوس بالأول وهو الزنا دون الثاني وهو نكاح ذوات المحارم، وغيرها كثير.
ختاماً: ينبغي أن يعلم أن في كتاب الله أكثر من عشرة أدلة على تحريم الخمر، وفي السنة المطهرة أكثر من ذلك، وقد انعقد إجماع أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم على تحريمه، بل قد عدَّ علماء الأصول تحريمه من المعلوم من الدين بالضرورة، وأن من أنكر حرمته يستتاب وتقام عليه.